---
لازالت قضية التسليم لرب العباد بحقه سبحانه في التشريع للعباد -رغم مرور الأزمان والعصور- أحد أهم قضايا كل زمان وكل عصر إن لم تكن قضيته الأولى، وبالتالي فهي أحد أخطر قضايا عصرنا وزماننا. وهذا معنى من المهم إبرازه لأهل الحق في هذا الزمان حتى تطمئن قلوبهم إلى أنهم يخوضون نفس المعارك التي خاضها الرسل وأتباعهم من أهل الإيمان في كل زمان.
وحتى يدركوا بالأمثلة الواقعة المعاصرة أن معركة الحق والباطل هي معركة واحدة متصلة، منذ أن خلق الله -سبحانه وتعالى- الخلق إلى أن يرث الله -سبحانه وتعالى- الأرض ومن عليها, إنها معركة واحدة في أهدافها وميادين صراعها وتميز أطرافها وأن تغيرت الصور وتبدلت القشور.
يقول الحق سبحانه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)، ويقول عز من قائل: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً)، ويقول الحق سبحانه: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب)، ويقول الحق سبحانه: (وكذلك نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين)، ويقول الحق سبحانه: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين)، ويقول الحق سبحانه: (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد أباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد).
والقرآن الكريم في تناوله الواسع والواضح والحاسم لتلكم القضية المحورية حرص على إظهار أطراف هذه المعركة الخالدة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وربطهم بأقرانهم وأشباههم عبر الأزمان والدهور، يقول الحق سبحانه: (وما أرسلنا من رسول إلى ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً، فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، ويقول الحق سبحانه: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون، وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).
ولكن قد يتساءل القارئ: لماذ تؤلف رسالة جديدة في الحاكمية؟ وماذا عساها أن تضيف لما سبقها من مؤلفات -قديمة وجديدة، مستقلة في موضوعها أو مشمولة مع غيرها- لأفاضل العلماء والدعاة من الأئمة المتقدمين أو الأجلة المتأخرين في هذه القضية؟.
وهو سؤال هام للقارئ ولكاتب الرسالة، لأن إجابته تكشف عن الغرض من تأليف هذه الرسالة في هذا الموضوع بالذات في هذا الوقت بالتحديد.
فكاتب هذه الرسالة لم يهدف إلى تكرار ماسبقه إليه أفاضل العلماء في هذه القضية الخطيرة، التي لم تفقد خطورتها -رغم مرور الأزمان- باعتبارها أحد أهم القضايا العقدية الرئيسية التي من أجلها أنزلت الكتب وبعثت الرسل وانعقدت العداوة ونشب الجهاد بين أهل الحق وأهل الباطل.
وكاتب هذه الرسالة لا يطمع أن يضيف إلى من سبقوه شيئاً, ولكنه يهدف إلى أن يوضح عدة أمور:
أولها: أن معركة العدو الصليبي اليهودي على أمتنا -وهي معركة قديمة جديدة- لا تشن فقط على المستوى العسكري والاقتصادي، بل وقبل كل ذلك ومعه وبعده على المستوى الفكري والسلوكي والاجتماعي. والمعركة على عقيدة الأمة -وخاصة في قضية لمن تكون الحاكمية- وبالتالي المعركة على شريعة الأمة هي المعركة الأهم، نظراً لما يترتب عليها من آثار فادحة الخطورة، تغير حال الأمة من كونها الأمة الخاتمة -حاملة رسالة التوحيد الشاهدة على الناس الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر- إلى تجمع تابع فاسد متهالك متهتك متناحر.
وثانيها: أن خصومنا في هذه المعركة يشكلون حلفاً مترابطاً لا يقتصر على الجيوش الغازية ولا البنوك الدائنة ولا الشركات الناهبة فقط، بل يمتد إلى داخل بلادنا ومجتمعاتنا في صورة حكام مستبدين وكتاب مأجورين ومفكرين منحرفين وقضاة جائرين، وأخيراً -وهم الأخطر- في صورة علماء السلاطين والمرجئة المعاصرين.
لذا تأمل هذه الرسالة إلى توضيح الترابط بين أعداء الداخل والخارج في أهدافهم وفي جنودهم.
كما تهدف هذه الرسالة -في أثناء تحديدها لأطراف الصراع في هذه الحلقة المعاصرة من سلسة الصراع الممتد عبر الزمان حول حق المولي سبحانه وتعالى في التشريع لخلقه دون سواه- إلى كشف اللثام وإسقاط القناع عن أعداء الإسلام المتزيين بزيه الذين يميعون قضية الحاكمية خدمة لأهداف أعداء الإسلام من الصليبيين الجدد واليهود وأذنابهم من حكام ديار الإسلام، يقول الحق سبحانه: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون).
هذا ما ترمي إليه هذه الرسالة ابتغاء لمرضاة الله سبحانه وتعالى وإرشاداً لأهل الحق إلى معالم مواقعهم ومواقع أعدائهم في ميدان الصراع الخالد بين أهل الكفر والإيمان حول التسليم لرب البشر بحقه في الحكم والتشريع لخلقه، وتحذيرهم من عيون أعدائهم المندسين بينهم، والساعين إلى زعزعة صفوفهم حتى تجتاحها جحافل الصليبيين الجدد وحلفائهم من اليهود من أجل فتات زائل ودنيا خسيسة.
فما كان في هذه الرسالة من خير وهدى فهو من توفيق المولى وحده صاحب الفضل والمنة لا شريك له، وما كان منها من غير ذلك فهو من نفس كاتبها ومن الشيطان، (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.